نواف
اكتسحني برد شديد، انتشلني من إغماءة، كنت أنتفض. حاولت أن أفتح عيني باتساع فلا أستطيع، جفناي متورمان وثقيلان. استطعت فتح فرجة صغيرة من عيني الشمال منها سبرت المكان الذي تسرب إليه خيط نور من ثقب في ساتر حديدي يسد النافذة. غرفة صغيرة، عدة كراسي بأرجل طويلة جنب الحائط، طاولتان بينهما قطعة سجاد، صندوق قناني مشروبات غازية فارغة، علب أصباغ رائحتها اتعبت تنفسي. نظرتي مهزوزة وألم انتشر في رأسي. ما لبثت النظرة قليلا حتى أسدلت جفني من الألم وعدت للظلام، ارتحت قليلا. صمت مطبق كصمت بدايات الكوابيس لا يخترقه سوى هدير مكيف هواء حوّل الغرفة لثلاجة. تذكرت بعضا من الكابوس الذي رأيته؛ كنت أغوص في ماء بارد والدنيا مظلمة من حولي. سطح الماء جليدي، أريد أن أتنفس فلا أجد فجوة أخرج منها. أكمل الغوص، لا هواء في رئتي وأكاد أختنق، من بعيد لاحت لي فجوة دائرية سبحت نحوها وما أن خرجت حتى شهقت أستنشق هواء، رأيت رجلا بوجهي، حاولت التعلق به ضربني على رأسي بقوة فرجعت للغرق.
يئست من صراخ لن يجدي فاللاصق على فمي أشد من أمس والعطش تملك بلعومي. حتى الدماء تمنيت أن تسيل مجددا من مكان السن. أريد ماء، بعضا من الماء الذي يبللني من رأسي حتى قدميّ.
.... بعدما صرخ بي ولطمني، ابتلعت السن وأغمي علي، استيقظت على ماء بارد يندلق على رأسي كدت أختنق من برودته. انزاحت العصابة عن عيني ورأيت وجهه جيدًا، رأس أعجمي ضخم، حليق الشعر واللحية عدا عنفقة تحت شفته السفلى، أمسك بخرطوم بلاستيكي أبيض يهز به في الهواء. صرخ بأنه سيربيني، نعتني بالناشط السياسي المخنّث. أردت أن أقوم عليه وأنهشه من رقبته، الوثاق يشدني للكرسي، إحساس القهر فاق آلام جسدي. وصفني الجبان بالجبن وأنه سيرمي بي وراء الشمس. هل مشاركتي في الندوات السياسية هي سبب قدومي لهذا المكان؟ يبدو أن ضربي لـ (ج) هو ما أتى بي لا غير، لابد أن أحد رجال المباحث شاهدني وكتب تقريرا أبلغهم عني فتربصوا بي. سلطة هذا المخلوق وهيبته بدأت تفوق من يفترض أن تكون لهم هيبة. بالهوز البلاستيكي الأبيض ضربني على رأسي ووجهي وظهري، دخل علينا آخر أمسك يده فتوقف عن ضربي، غادر وصفق الباب بقوة. صار الآخر يتأملني بنظرة فيها طيبة وتفهّم، في وجهه طيبة وملامح ابن العرب. أمسك بطرف الشريط اللاصق على فمي وتردد ثم تركه ولم يزله. خطا للخارج أيضا. مبللا أواجه البرد والعطش، تتناهشني الأفكار ويخدرني الأمل.. بسيارتي التي لا بد أن أحدًا سيراها في الساحة، سيبلغون المخفر، أبناء عمي سيهرعون للبحث عني لاشك. وتكون قضية رأي عام تكبر ولا تصغر، تهت في أحلام انتهت بدخول ابن العرب، صفق الباب بقوة خلفه. يحمل قنينة ماء يخرج منها مصاص. وبيده الأخرى قلم، ثقب به الشريط اللاصق. صرت أشرب من المصاص ماء بالكاد يصل لي. كل قطرة شعرت بها تسري في عروقي.
"ما تفسيرك لما وجدناه في السيارة؟"
عيناه مسلطتان علي وقد ارتخى جفناه كمن يريد النوم، نبرة من لا يحبذ اللف والدوران. أخرج من جيبه العلوي ورقة مطوية، فتحها بعناية؛ شعار الدولة في أعلاها وجدول مرتب أسفل منها.
"كل شيء مذكور هنا، فلا داعي للإنكار"
عاد إلى كرسيه، امتطاه مقلوبا أسند ذقنه إلى ظهر الكرسي، وعاد بذات النظرة.
"ما رأيته حتى الآن لن تعده شيئا مقابل ما ستراه إن لم... تتعاون"
مال بكرسيه للأمام حتى كاد يسقط، مد يده ناحية الشريط اللاصق وأمسك بطرفه ونزعه بقوة، الألم لا يحتمل، صرخت وطفرت الدموع الحارة من عيني بغزارة، شعرات شنبي كأنها مربوطة بقلبي. أحسست بلزوجة فوق شفتي، دماء. سكت قليلا لم أجد شيئًا أقوله. بدت نوبات الربو قريبة.
"أنا مريض!"
وجهه البارد لم يتحرك، هو من تحرك، قام واقترب وبصق في وجهي وقرر.
"لن تتعاون"
صرخت أن لا شأن لي، وأنهم بالتأكيد يقصدون شخصا آخر، وأن لا علاقة لي بأي شيء. لم يلتفت نحوي. ذهب وعاد بآلة حلاقة صغيرة تأز، انفجر ضاحكًا، كأن الأزيز يدعوه لذلك.
"لا أتحمل منظر شنبك المضحك، فنصفه اليمين يكاد يخلو من الشعر، لذا سأحلقه لك. هل يوجد أرقى من ضابط يحلق لتاجر ممنوعات؟ الشرطة في خدمة الشعب".
أدرت رأسي مبتعدًا عن الماكنة.
"أمين... يا أمين... تعال هنا"
أعاد النداء مرات، دخل بنغالي تكاد تختفي رقبته من السمنة. أمسك برأسي كما يمسك برأس خروف. واقترب الأزيز مجددًا، أغمضت عيني. والألم يشرخ صدري. بدأ بالحلاقة من طرف شفتي اليمين إلى أن وصل أسفل أنفي فتوقف.
"سأتوقف، فلا مانع لدي من الضحك، عندما يأتي مجبل سيغشى عليه لا شك. الضحك قد يخفف من قسوته!"
مجبل هو من لطمني قبل أن أبتلع سني وأفقد الوعي.
"سيعود صباحًا أو ظهرًا، إن لم تتكلم حتى ذلك الحين، فالله يستر عليك. لن ألصق الشريط على فمك الآن، سأفعل قبل أن يأتي"
هذا الضابط يلعب دور الطيب، والآخر يلعب دور الشرير ويريدونني أن أعترف بما لم أرتكب. أحاول التملص كضب سد باب جحره. لا سبيل للهروب إلا أن أذهب للنيابة. رجع الألم في صدري، هذرت بكلام وبدأت أكح بعده. خرج الضابط مرتاحا، الحكة تكاد تخلع بلعومي حتى إذا ما شارفت الغيبوبة خفتت. الإعياء نال مني وضرب الخرطوم البلاستيكي تتوهج مواضعه. صدى الأسئلة في رأسي يدوى، أجد إجابة وأقتنع بها لدقائق حتى أكتشف الثقوب التي مُلئت بها فأصرف النظر وأبحث عن إجابات أخرى. إن اعترفت بما لم أرتكب سأنفيه لاحقا أمام النيابة. قد يكون لـ (ج) علاقة بما أنا فيه. ولا أستبعد أن يطل من الباب ويبتسم.
بطني يغرغر من الجوع، رائحة ساندويشات البطاطا المقلية التي تركتها في السيارة باتت زاكية، وطعمها الذي كنت أمقته صار تحت لساني، أستشعره في لعابي، لو جاء بها الآن لأكلتها بالورق الذي يلفها ولن أنتظر حتى أزيله. رأيت في منامي (ج) يدفع الباب، ويدس ساندويشا مليئا بعشب قذر في فمي، أحاول إغلاقه بقوة ويستمر في دفعه فأبتلعه. يضحك ويقول: ساندويش طراثيث على ذوقك. بعدما تفرست في وجهه لم يكن وجه (ج) بل وجه من ضربني على رأسي في الكابوس عندما خرجت من الماء المتجمد. إنه بالضبط وجه من سلمنا عليه عندما كنت أقف مع مبارك المجريطي قبل الندوة في الصليبيخات!!.....
أفقت وإذ باللاصق على فمي مجددا. فتح الباب ودخلا علي، بيد مجبل مقص وفي الأخرى كأس ويسكي مُلِئ بالثلج يمتص منه بهدوء وسيجارة بين الأصابع. يهز المقص بعصبية مشيرا نحو بطني، ذهب خلفي وسمعت صوت الكأس يوضع على الأرض. بينما اتجه الضابط ناحية الحائط حيث اصطفت ثلاثة كراسي خشبية ذات قوائم مرتفعة لابد أن الذي أنا مربوط به رابعهم، أمسك بعصا معدنية بجانبهم ووصلها بالطاولتين حتى شكلت عارضة كجهاز قفز الزانة وأحكم تثبيت طرفي العصا بقطعة معدنية. مجبل من خلفي قص دشداشتي من عند الرقبة ثم أمسك بطرفيها ومزق الباقي بيديه، التف إلى الأمام، نظر في وجهي. أخرج هاتفه وعبث به، قرب رأسه من رأسي، ثبت عدسة كاميرا الهاتف أمامنا والتمع الفلاش في عيني واستمر لمعانه لثوانٍ. أرجع هاتفه، همس في أذني.
"يا ابن القحـ...، أنا سأربيك وأعلمك كيف تقيم علاقة مع من هم أعلى منك يا سافل"
من يقصد؟! امك هي العاهرة يا ابن....، حرق في جلد كتفي أسفل رقبتي سرى إلى قلبي مباشرة وانفجر ألمًا لا يطاق، أطفأ سيجارته هناك. خرج الضابط كمن لم يأبه بما حدث. أخرج سيجارة أخرى من العلبة، أشعلها،
أشار للبقية"سأطفئها في أماكن لن تتخيلها!"
[من رواية “لا تقصص رؤياك” لعبد الوهاب الحمادي (المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، ٢٠١٤)]